فصل: تفسير الآيات رقم (34- 36)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ‏}‏ الآية‏.‏

قال ابن جُرَيْجٍ، والضحاك‏:‏ عزى اللَّه بهذه الآية نَبِيَّهُ عليه السلام ثم قَوَّى سبحانه رَجَاء نَبِيِّهِ فيما وَعَدَهُ من النصر، بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ مُبَدِّلَ لكلمات الله‏}‏، أي‏:‏ لاَ رَادَّ لأَمْرِهِ، وكلماته السابقة بما يكون، فكأن المعنى‏:‏ فاصبر كما صَبَرُوا، وانتظر ما يأتي، وَثِقْ بهذا الإخبار، فإنه لا مُبَدِّلَ له‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أنْ لاَ وَجْهَ إلا الصَّبر، والمعنى‏:‏ إن كنت تعظم تكذيبهم، وكفرهم على نَفْسِكَ، وتلتزم الحُزْنَ، فإن كنت تقدر على دُخُولِ سَرَبٍ في أعماق الأرض، أو على ارْتِقَاءِ سُلَّمٍ في السماء، فافعل، أي‏:‏ ولست بِقَادِرٍ على شيء من هذا، ولا بُدَّ لك من التزام الصَّبْرِ، واحتمال المشقة، ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين‏}‏ في أن تَأْسَفَ وتحزن على أَمْرٍ أراده اللَّه، وأمضاه‏.‏ وروى الدَّارَقُطْنِيُّ في «سننه» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال‏:‏ ‏"‏ إذا أَصَابَ أَحَدَكُمْ هَمٌّ أوْ حُزْنٌ فليقل سَبْعَ مَرَّاتٍ‏:‏ اللَّه اللَّه رَبِّي لاَ أُشْرِكُ به شَيْئاً ‏"‏ انتهى من «الكوكب الدُّري»‏.‏

و ‏{‏فَتَأْتِيَهُم بِئَايَةٍ‏}‏ أي‏:‏ بعلامة‏.‏

وقال مَكّي، والمَهْدوي‏:‏ الخِطَابُ بقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين‏}‏ للنبي صلى الله عليه وسلم والمُرَادُ أمته، وهذا ضَعِيفٌ لا يقتضيه اللفظ‏.‏ قلت وما قاله * ع *‏:‏ فيه عندي نَظَرٌ؛ لأن هذا شَأْنُ التأويل إخراج اللَّفْظِ عن ظاهره لموجب، عَلَى أن أَبَا محمد مَكِّيًّا رحمه اللَّه نَقَلَ هذا القول عن غيره نَقْلاً، ولفظه‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين‏}‏ أي‏:‏ ممن لا يعلم أن اللَّه لو شَاءَ لَجَمَعَ على الهُدَى جميع خَلْقِهِ‏.‏

وقيل‏:‏ معنى الخطاب لأُمَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى‏:‏ فلا تكونوا من الجاهلين، ومثله في القرآن كثير‏.‏ انتهى من «الهِدَايَةِ»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ‏}‏ هذا من النَّمَطِ المُتَقَدِّمِ في التسلية، أي‏:‏ لا تحفل بمن أعرض، فإنما يَسْتَجِيبُ لداعي الإيمان الذين يَفْهَمُونَ الآيات، ويتلقون البَرَاهِينَ بالقَبُولِ، فعبر عن ذلك كله ب ‏{‏يَسْمَعُونَ‏}‏ إذ هو طريق العلم، وهذه لفظة تستعملها الصُّوفِيَّةُ رضي اللَّه عنهم إذا بلغت المَوْعِظَةُ من أحد مبلغاً شافياً، قالوا‏:‏ سمع‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والموتى‏}‏ يُرِيدُ الكفار أي‏:‏ هم بمَثَابَةِ الموتى، فعبر عنهم بِضِدِّ ما عبر عن المؤمنين، وبالصفة التي تُشْبِهُ حالهم في العمى عن نور اللَّه، والصَّمَمِ عن وَعْيِ كلماته‏.‏ قاله مجاهد، والحسن، وقتادة‏.‏

و ‏{‏يَبْعَثُهُمُ الله‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ قال الحسن‏:‏ معناه يبعثهم بأن يُؤْمنوا حين يوفقهم، وقراءة الحسن «ثم إليه تُرْجَعُون» بالتاء من فوق، فَتَنَاسَبَت الآية‏.‏

وقال مجاهد، وقتادة‏:‏ ‏{‏والموتى‏}‏ يريد الكفار ‏{‏يَبْعَثُهُمُ الله‏}‏، أي‏:‏ يَحْشرهم يوم القيامة، ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ‏}‏، أي‏:‏ إلى سَطْوته، وعقابه يرجعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ‏}‏ «لَوْلاَ» تحضيض بمعنى «هلاَ»، ومعنى الآية‏:‏ هلا نزل على محمد بَيَانٌ واضح كَمَلَكٍ يَشْهَدُ له، أو كَنْزٍ، أو غير ذلك من تَشَطُّطهِم المَحْفُوظِ في هذا، ثم أُمِرَ عليه السلام بالرَّدِّ عليهم بأن اللَّه عز وجل قَادِرٌ على ذلك، ولكن أكثرهم لا يَعْلَمُونَ أنها لو نَزَلَتْ، ولم يؤمنوا لَعُوجِلُوا بالعَذَابِ، ويحتمل ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنه سبحانه إنما جعل الإِنْذَارَ في آيات معرضة للنظر، والتأمُّلِ ليهتدي قَوْمٌ ويضلُّ آخرون‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم‏}‏ المعنى‏:‏ في هذه الآية التَّنْبِيهُ على آيات اللَّه المَوْجُودَةِ في أنواع مَخْلُوقَاتِهِ المَنْصُوبَةِ لمن فَكَّرَ واعتبر؛ كالدواب والطير، ويدخل في هَذَيْنِ جَمِيعُ الحَيَوَانِ، وهي أمم أي‏:‏ جَمَاعَاتٌ مماثلة للناس في الخَلْقِ، والرزق، والحَيَاةِ، والمَوْتِ، والحَشْرِ‏.‏

ويحتمل أن يريد بالمُمَاثَلَةِ في كونها أمماً لا غير، إلا أن الفَائِدَةَ في هذه الآية بأن تكون المُمَاثَلَةُ في أَوْصَافٍ غير كونها أمماً‏.‏

قال الطبري، وغيره‏:‏ والمُمَاثَلَةُ في أنها يُهْتَبَلُ بأعمالها، وتحاسب، ويقتصّ لبعضها من بَعْضٍ، على ما روي في الأحَادِيثِ؛ أي‏:‏ فإذا كان هذا يُفْعَلْ بالبهائم، فأنتم أَحْرَى إذ أنتم مُكَلَّفُونَ عُقَلاَء‏.‏

وروى أبو ذَرٍّ‏:‏ أنه انْتَطَحَتْ عنزان بِحَضْرَةِ النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ أَتَعْلَمُونَ فِيمَا انْتَطَحَتَا‏؟‏ قِلْنَا‏:‏ لا، قال‏:‏ فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا ‏"‏‏.‏ وقال مَكّي‏:‏ المُمَاثَلَةُ في أنها تَعْرِفُ اللَّه، وتعبده‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ تأكيد، وبيان، وإزالة للاستعارة المُتَعَاهَدَةِ في هذه اللفظة؛ إذ يقال‏:‏ طائر السَّعْدِ، والنَّحْسِ‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألزمناه طائره فِي عُنُقِهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 13‏]‏، ويقال‏:‏ طار لفلان طائر كذا، أي‏:‏ سهمه في المقتسمات، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ إخراج للطائر عن هذا كله‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ‏}‏ التفريط‏:‏ التقصير في الشَّيْءِ مع القُدْرَةِ على تَرْكِ التقصير‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ أصل فَرَّطْنَا يَتَعَدَّى ب «في» ثم يضمن معنى أغفلنا، فيتعدى إلى مَفْعُولٍ به، وهو هنا كذلك، فيكون ‏{‏مِن شَيْءٍ‏}‏ في مَوْضِعِ المفعول به‏.‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏الكتاب‏}‏‏:‏ القرآن وهو الذي يقتضيه نَظَامُ المعنى في هَذِهِ الآيَاتِ‏.‏

وقيل‏:‏ اللوح المحفوظ، ‏{‏وَمِنْ شَئ‏}‏ على هذا القول عَامٌّ في جَمِيعِ الأشياء، وعلى القول بأنه القُرْآن خَاصٌّ‏.‏

و ‏{‏يُحْشَرُونَ‏}‏؛ قالت فرقة من العلماء‏:‏ حَشْرُ البهائم بَعْثُهَا، واحتجوا بالأَحَادِيثِ المضمنة أن اللَّه تعالى يَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ من القَرْنَاءِ، ومن قال‏:‏ إنما هي كِنَايَةٌ عن العَدْلِ، وليست بحقيقة، فهو قول مَرْدُودٌ ينحو إلى القَوْلِ بالرُّمُوزِ ونحوها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏39‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏40‏)‏ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين كَذَّبُواْ بآياتنا صُمٌّ وَبُكْمٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية كأنه قال‏:‏ وما من دَابَّةٍ، ولا طائر، ولا شَيْءٍ، إلاَّ وفيه آية منصوبة دالة على وَحْدَانِيَّةِ اللَّه تعالى ولكن الذين كَذَّبُوا بآياتنا صُمّ وبكم لا يتلقون ذلك، ولا يَقْبَلُونَهُ، وظاهر الآية أنها تعمُّ كل مُكَذِّبٍ‏.‏

وقال النقاش‏:‏ نزلت في بني عَبْدِ الدَّارِ‏.‏

قال * ع *‏:‏ ثم تَنْسَحِبُ على سواهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِي الظلمات‏}‏ يَنُوبُ عن عمي، وفي الظلمات أَهْوَل عبارة، وأفصح، وأوقع في النَّفْسِ‏.‏

قال أبو حَيَّانَ‏:‏ ‏{‏فِي الظلمات‏}‏ خبر مبتدإ مَحْذُوفٍ، أي‏:‏ هم في الظلمات، أو صفة ل ‏{‏بِكُمْ‏}‏؛ أي‏:‏ كائنون في الظلمات، أو حال من الضمير المقدر في الخبر، أي‏:‏ ضالون في الظلمات‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُم‏}‏ ابتداء احْتِجَاجٍ على الكفار الجاعلين للَّه شركاء، والمعنى‏:‏ أرأيتم إذا خِفْتُمْ عَذَابَ اللَّه، أو خفتم هَلاَكاً، أو خفتم السَّاعَةَ، أتدعون أَصْنَامَكُمْ وتَلْجَئُون إليها في كَشْفِ ذلك إن كنتم صادقين في قولكم‏:‏ إنها آلهة، بل إنما تدعون اللَّه الخَالِقَ الرازق، فيكشف ما خِفْتُمُوه، إن شاء، وتنسون أصنامكم، أي‏:‏ تتركونهم، فعبر عن التَّرْكِ بأعظم وجوهه الذي هو مَعَ التَّرْكِ ذهول، وإغفال، فكيف يجعل إلهاً من هذه حَالُهُ في الشدائد والأَزَمَاتِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 45‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏(‏42‏)‏ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ‏(‏44‏)‏ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فأخذناهم‏}‏ في الكلام حَذْفٌ، تقديره‏:‏ فكذبوا فأخذناهم‏؟‏ أي‏:‏ تابعناهم بالبَأْسَاءِ الآية، والبأساء المَصَائِبُ في الأموال، والضراء في الأَبْدَانِ‏.‏ هذا قول الأكثر‏.‏

وقيل‏:‏ قد يُوضَعُ كل واحد بَدَلَ الآخر، والتضرُّعُ التذلل، والاستكانة، ومعنى الآية توعد الكفار، وضرب المَثَلِ لهم، و‏{‏لَوْلاَ‏}‏ تحضيض، وهي التي تلي الفِعْلَ بمعنى‏:‏ «هلا» وهذا على جِهَةِ المعاتبة لِمُذْنِبٍ غائب، وإظهار سوء فعله مع تَحَسُّرِ ما عليه‏.‏

قلت‏:‏ أي‏:‏ مع تَحَسُّرٍ ما، باعتبار حالة البَشَرِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية عبر عن الترك بالنِّسْيَانِ، و‏{‏فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ‏}‏ أي‏:‏ من النِّعَمِ الدنيوية بعد الذي أَصَابَهُمْ من البَأْسَاءِ والضراء، و‏{‏فَرِحُواْ‏}‏ معناه‏:‏ بطروا، وأعجِبوا، وظنوا أن ذَلِكَ لا يَبيدُ، وأنه دَالٌّ على رضا اللَّه عنهم، وهو اسْتِدْرَاجٌ من اللَّه تعالى‏.‏

وقد رُوِيَ عن بعض العلماء‏:‏ رحم اللَّه عبداً تَدَبَّر هذه الآية ‏{‏حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أخذناهم بَغْتَةً‏}‏‏.‏

وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا رأيت اللَّه تعالى يعطي العِبَادَ ما يشاءون على مَعَاصيهم، فذلك اسْتِدْرَاجٌ ثم تلا‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏"‏ الآية كلها، و‏{‏أخذناهم‏}‏ في هذا المَوْضِعِ معناه‏:‏ استأصلناهم بَغْتَةً أي‏:‏ فجأة، والمبلس الحَزِينُ الباهت اليَائِسُ من الخَيْرِ الذي لا يَحِيرُ جَوَاباً لشدة ما نَزَلَ به من سوء الحال‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ القوم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

الدَّابر‏:‏ آخر القوم الذي يَأتي من خَلْفِهِم، وهذه كناية عن استئصال شأفتهم، ومَحْوِ آثارهم، كأنهم وَرَدُوا العَذَابَ حتى ورد آخرهم الذي دَبَرَهُمْ، وحَسُنَ الحمد عَقِبَ هذه الآية لِجَمَالِ الأفعال المتقدمة في أن أرسل سبحانه الرسل، ولطف في الأَخْذِ بالبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ؛ ليتضرع إليه، فيرحم، وينعم، وقطع في آخر الأمر دابر الظَّلَمَة، وذلك حَسَنٌ في نفسه، ونعمة على المؤمنين، فحسن الحَمْدُ عقب هذه الأفعال، وبحمده سبحانه ينبغي أن يُخْتَمَ كل فعل، وكل مَقَالٍ، إذ هو المحمود على كُلِّ حال لا رَبَّ غيره، ولا خير إلاَّ خَيْرُهُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 49‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ‏(‏46‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏48‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏{‏أَخَذَ‏}‏ معناه أَذْهَبَ، والضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ عائد على المأخوذ، و‏{‏يَصْدِفُونَ‏}‏ معناه‏:‏ يعرضون، وينفرون، ومنه قول الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

إذَا ذَكَرْنَ حَدِيثاً قُلْنَ أَحْسَنَهُ *** وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أتاكم عَذَابُ الله بَغْتَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية وعيد وتهديد‏.‏

قال‏:‏ * ع *‏:‏ ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ عند سيبويه‏:‏ تَتَنَزَّلُ منزلة «أخبروني»؛ ولذلك لا تَحْتَاجُ إلى مفعولين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بَغْتَةً‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ لم يَتَقَدَّمْ عندكُمْ منه عِلْمٌ، و‏{‏وجَهْرَة‏}‏، معناه‏:‏ تبدو لكم مَخَايلُهُ ومَبَاديه، ثم يتوالى حتى ينزل‏.‏

قال الحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَنِ‏:‏ ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ لَيْلاً و‏{‏جَهْرَةً‏}‏‏:‏ نهاراً‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ فُجَاءَةً ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏‏.‏ و‏{‏جَهْرَةً‏}‏‏:‏ وهم ينظرون‏.‏

قال أبو حَيَّان‏:‏ ‏{‏هَلْ يُهْلَكُ‏}‏ ‏؟‏ «هل» حَرْفُ استفهام، معناه هنا النَّفْيُ، أي‏:‏ ما يهلك؛ ولذلك دخَلَتْ «إلاَّ» على ما بعدها‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ‏}‏، أي‏:‏ إلاَّ ليبشِّروا بإنعامنا وَرَحْمَتِنَا مَنْ آمن، ومُنْذِرِينَ بعذابنا وعِقَابنا مَنْ كَذَّب وكَفَر، قال أبو حَيَّان‏:‏ ‏{‏مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏‏:‏ حالٌ فيها معنَى العِلِّيَّة، أي‏:‏ أرسلناهم للتبشير والإنذار‏.‏ انتهى‏.‏

ثم وَعَدَ سبحانَهُ مَنْ سلَكَ طريقَ البِشَارة، فآمَنَ وأصْلَح في امتثال الطاعةِ، وأوعد الآخَرِينَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏52‏)‏ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلا أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا مِنَ الرَّدِّ على القائلين‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 37‏]‏ والطَّالِبِينَ أنْ ينزَّل ملَكٌ، أو تكونَ له جَنَّةٌ أو كَنْزٌ، ونَحْوُ هَذَا، والمعنى‏:‏ إنما أنا بشر، وإنما أَتَّبِعُ ما يوحى إليَّ، وهو القرآنُ وسَائِرُ ما يأتيه مِنَ اللَّه سبحانه، أي‏:‏ وفي ذلك عِبَرٌ وآياتٌ لمن تأمَّل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير‏}‏، أي‏:‏ هل يستوي المؤمِنُ المُفَكِّرُ في الآياتِ، معِ الكافِرِ المُعْرِضِ عَنِ النَّظَر؛ أفلا تتفكَّرون، وجاء الأمر بالفِكْرة في عبارة العَرْض والتَّحْضيض‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنذِرْ بِهِ‏}‏، أي‏:‏ وأنذر بالقرآن الذين هُمْ مَظِنَّةُ الإيمان، وأهْلٌ للاِنتفاعِ، والضميرُ في ‏{‏بِهِ‏}‏ عائدٌ على ما يوحى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ‏}‏‏:‏ إخبارٌ من اللَّه سبحانه عَنْ صفة الحالِ يَوْمَ الحَشْرِ، قال الفَخْر‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏‏:‏ قال ابن عَبَّاس‏:‏ معناه‏:‏ وأنذرهم لكَيْ يخافوا في الدنيا، وينتهوا عن الكُفْر والمعاصِي‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي‏}‏‏:‏ المرادُ ب ‏{‏الذين‏}‏ ضَعَفَةَ المُؤْمنين في ذلك الوَقْت في أمور الدُّنْيا؛ كَبَلاَلٍ‏.‏ وصُهَيْبٍ، وعَمَّارٍ، وَخَبَّابٍ، وصُبَيْحٍ، وذي الشِّمَالَيْنِ والمِقْدَادِ، ونحوِهِمْ، وسببُ الآية أنَّ بعض أشراف الكُفَّار قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ نَحْنُ لِشَرَفِنَا وأقْدَارِنَا لاَ يُمْكِنُنَا أنْ نختلطَ بهؤلاءِ، فلو طَرَدْتَّهم، لأتَّبَعْنَاكَ، وَرَدَ في ذلك حديثٌ عن ابْنِ مسعود، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخَدِيعَةَ، فنزلَتِ الآية، و‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي‏}‏‏:‏ قال الحَسَنُ بنُ أبي الحَسَن‏:‏ المراد به صلاةُ مكَّة الَّتي كانَتْ مرَّتين في اليومِ بُكْرةً وعَشِيًّا، وقيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏بالغداة والعشي‏}‏‏:‏ عبارةٌ عن استمرار الفعْلِ، وأنَّ الزمان معمورٌ به، والمرادُ على هذا التأويل، قيل‏:‏ الصلواتُ الخَمْس؛ قاله ابنُ عَبَّاس وغيره، وقيل‏:‏ الدُّعاء، وذِكْرُ اللَّه، واللفظةُ على وجهها، وقيل‏:‏ القُرآنُ وتعلُّمه؛ قاله أبو جعفر، وقيل‏:‏ العبادةُ؛ قاله الضَّحَّاك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏ قلتُ‏:‏ قال الغَزَّالِيُّ في «الجَوَاهر»‏:‏ النيةُ والعَمَلُ؛ بهما تمامُ العبادةِ، فالنِّيَّة أحد جُزْأيِ العبَادةِ، لكنها خير الجزأَيْن، ومعنى النيَّة إرادةُ وَجْه اللَّه سبحانه بالعَمَلِ، قال اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ‏}‏، ومعنى إخلاصها تصفيةُ الباعِثِ عن الشوائِبِ، ثم قال الغَزَّالِيُّ‏:‏ وإذا عرفْتَ فَضْل النية، وأنَّها تحلُّ حَدَقَةَ المقْصود، فاجتهد أنْ تستكثر مِنَ النِّيَّة في جميع أعمالِكَ؛ حتى تنوي بعملٍ واحدٍ نيَّاتٍ كثيرةً، فاجتهد ولو صَدَقَتْ رغبتُكَ، لَهُدِيتَ لطريقِ رشدك‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَيْءٍ‏}‏، قال الحَسَنُ والجمهورُ‏:‏ أيْ‏:‏ مِنْ حسابِ عملهم، والمعنى‏:‏ أنك لم تُكَلَّفْ شيئاً غيْرَ دعائهم، وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَطْرُدَهُمْ‏}‏‏:‏ هو جوابُ النفْيِ في قوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلَيْكَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَكُونُ‏}‏‏:‏ جوابُ النهْيِ في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَطْرُدِ‏}‏‏.‏

و ‏{‏فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ‏}‏، أي‏:‏ ابتلينا، و‏{‏لِّيَقُولواْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ ليصيرَ بحُكْم القَدَرِ أمرُهُمْ إلى أن يقولُوا؛ على جهة الاِستخْفَافِ والهُزْء‏:‏ ‏{‏أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا‏}‏، فاللامُ في ‏{‏لِّيَقُولواْ‏}‏‏:‏ لامُ الصَّيْرورة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين‏}‏، أيْ‏:‏ يأيُّها المستخفُّون، ليس الأمر أمر استخفاف، فاللَّه أعلَمُ بمَنْ يشكر نعمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 57‏]‏

‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏54‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏55‏)‏ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال جمهور المفسِّرين‏:‏ هؤلاءِ هم الذينَ نَهَى اللَّهُ عَنْ طردهم، وشَفَعَ ذلك بِأنْ أَمَرَ سبحانه أنْ يسلِّم النبيُّ عليه السلام عليهم، ويُؤْنِسَهُمْ، قال خَبَّابُ بْنُ الأَرَتَّ‏:‏ لما نزلَتْ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فكُنَّا نأتي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيقولُ لنا‏:‏ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، ونقعُدُ معه، فإذا أراد أنْ يقوم، قَامَ، وتركَنا، فأنزل اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏، فكان يَقْعُدُ معنا، فإذا بَلَغَ الوقْتَ الذي يقومُ فيه، قُمْنا وتركْنَاه، حتى يقوم، و‏{‏سلام عَلَيْكُم‏}‏‏:‏ ابتداءٌ، والتقديرُ‏:‏ سَلاَمٌ ثابتٌ أو واجبٌ عليكم، والمعنَى‏:‏ أمَنَةً لكُمْ مِنْ عذاب اللَّه في الدنيا والآخرة، ولفظه لفظُ الخَبَر، وهو في معنى الدُّعَاء، قال الفَخْر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏‏:‏ النَّفْسُ ههنا‏:‏ بمعنى الذَّات، والحقيقةِ، لا بمعنى الجِسْمِ، واللَّهُ تعالى مقدَّس عنه‏.‏ انتهى‏.‏

قلتُ‏:‏ قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في كتاب «تفسير الأَفْعَال الواقعة في القُرآن»‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة‏}‏، قال علماؤنا‏:‏ كَتَبَ‏:‏ معناه أَوْجَبَ، وعندي أنه كَتَبَ حقيقةً، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ اكتب، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ‏"‏ انتهى‏.‏

وقرأ عاصمٌ، وابنُ عَامِرٍ أنَّهُ بفَتْحِ الهَمْزةِ في الأولى والثانيةِ «فأنَّهُ»‏:‏ الأولى بدلٌ من ‏{‏الرحمة‏}‏، و«أنَّهُ» الثانيةُ‏:‏ خبرُ ابتداءٍ مضمرة، تقديرُهُ‏:‏ فأمره أنَّه غفورٌ رحيمٌ، هذا مذْهَبُ سيبَوَيْه، وقرأ ابنُ كَثِيرٍ، وأبو عَمْرٍو، وحمزة، والكسائي «إنَّهُ» بكسر الهمزة في الأولى والثانية، وقرأ نافعٌ بفَتْح الأولى وكَسْر الثانية، والجهالةُ في هذا الموضِعِ‏:‏ تعمُّ التي تُضَادُّ العِلْمَ، والتي تُشَبَّه بها؛ وذلك أنَّ المتعمِّد لفعْلِ الشيء الذي قَدْ نُهِيَ عنه تسمى معصيته تِلْكَ جِهَالَةً، قال مجاهدٌ‏:‏ مِنَ الجهالةِ ألاَّ يعلم حَلاَلاً مِنْ حرامٍ، ومن جهالته أنْ يركِّب الأمر‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أيْ‏:‏ يتعمَّده، ومن الجهالة الَّتي لا تُضَادُّ العلم قولُهُ صلى الله عليه وسلم في استعاذته‏:‏ ‏"‏ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ‏"‏؛ ومنها قولُ الشَّاعر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ علَيْنَا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا

قال الفخْر‏:‏ قال الحَسَنُ‏:‏ كُلُّ مَنْ عَمِلَ معصيةً، فهو جاهلٌ، فقيل‏:‏ المعنى أنه جاهلٌ بمقدارِ ما فاتَهُ منَ الثَّواب، وما استحقه من العقابِ، قلْتُ‏:‏ وأيضاً فهو جاهلٌ بقَدْر مَنْ عصاه‏.‏ انتهى‏.‏

والإشارةُ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نُفَصِّلُ الأيات‏}‏، إلى ما تقدَّم من النهْيِ عن طَرْدِ المؤمنين، وبَيَانِ فَسَادِ مَنْزَعِ العارضين لذلك، وتفصيلُ الآياتِ‏:‏ تبيينُها وشَرْحُها وإظهارُها، قلْتُ‏:‏ ومما يناسِبُ هذا المَحَلَّ ذِكْرُ شيء ممَّا ورد في فَضْلِ المُصَافَحَة، وقد أسند أبُو عُمَر في «التمهيد»، عن عبد الرحْمَنِ بْنِ الأسود، عن أَبِيهِ وعلقمة؛ أنهما قَالاَ‏:‏ «مَنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ المُصَافَحَةُ»، وروى مالكٌ في «الموطإ»، عن عطاءٍ الخُرَاسَانِيِّ، قالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ تَصَافَحُوا؛ يَذْهَبُ الغِلُّ، وَتَهَادَوْا؛ تَحَابُّوا، وَتَذْهَب الشَّحْنَاءُ ‏"‏، قال أبو عُمَر في «التمهيد»‏:‏ هذا الحديثُ يتَّصلُ مِنْ وجوه شتى حِسَانٍ كلُّها، ثم أسند أبو عُمَر من طريقِ أبي دَاوُد وغَيْره، عن البَرَاءِ، قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَتَصَافَحَانِ إلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّفَا ‏"‏، ثم أسند أبو عُمَرَ عن البَرَاء بنِ عَازِبٍ، قال‏:‏ ‏"‏ لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ كُنْتُ لأحْسِبُ أَنَّ المُصَافَحَةَ لِلْعَجَمِ فَقَالَ‏:‏ نَحْنُ أَحَقُّ بِالمُصَافَحَةِ مِنْهُمْ؛ مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ مَوَدَّةً بَيْنَهُمَا، ونَصِيحَةً، إلاَّ أُلْقِيَتْ ذُنُوبُهُمَا بَيْنَهُمَا ‏"‏، وأسند أبو عُمَرَ عن عمر بْنِ الخَطَّابِ، قال‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذَا التقى المُسْلِمَانِ، فَتَصَافَحَا، أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ؛ تِسْعُونَ مِنْهَا لِلَّذِي بَدَأَ بِالمُصَافَحَةِ، وَعَشَرَةٌ لِلَّذِي صُوفِحَ، وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إلَى اللَّهِ أَحْسَنُهُمَا بِشْراً بِصَاحِبِهِ ‏"‏ انتهى‏.‏

وقد ذكرنا طَرَفاً مِنْ آدَابِ المُصَافحة فِي غَيْرِ هذا الموضعِ، فَقِفْ عليه، واعمل به، تَرْشَدْ، فإنَّ العلْم إنما يرادُ للعَمَل، وباللَّه التوفيق‏.‏

وخُصَّ سبيلُ المُجْرمينَ بالذِّكْر؛ لأنهم الذين آثَرُوا ما تقدَّم من الأقوال، وهو أهَمُّ في هذا الموضِعِ؛ لأنها آياتُ رَدٍّ علَيْهم‏.‏

وأيضاً‏:‏ فتَبْيِينُ سَبِيلِهِمْ يتضمَّن بيانَ سَبِيلِ المُؤْمنين، وتَأوَّلَ ابنُ زَيْد؛ أنَّ قوله‏:‏ ‏{‏المجرمين‏}‏ مَعْنِيٌّ به الآمِرُونَ بطَرْد الضَّعَفَةِ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ أَمَرَ اللَّهُ سبحانه نَبيَّه عليه السلام؛ أنْ يجاهرهم بالتبرِّي ممَّا هم فيه، و‏{‏تَدْعُونَ‏}‏‏:‏ معناه تعبدون، ويْحْتَمَلُ أنْ يريدَ‏:‏ تَدْعُونَ في أموركُمْ، وذلك مِنْ معنى العبَادةِ، واعتقادهم الأصنامَ آلهة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي‏}‏‏:‏ المعنى‏:‏ قل إني على أمْر بيِّن، ‏{‏وَكَذَّبْتُم بِهِ‏}‏، الضمير في «بِهِ» عائدٌ على «بَيِّن»، أو علَى الرَّبِّ، وقيل‏:‏ على القُرآن، وهو جليٌّ، وقال بعضُ المفسِّرين‏:‏ الضميرُ في «به» الثانِي عائدٌ على «مَا»، والمُرَادُ بها الآياتُ المقْتَرَحَةُ؛ على ما قال بعض المفسِّرين، وقيل‏:‏ المرادُ به العذابُ، وهو يترجَّح من وجْهَيْن‏:‏

أحدهما‏:‏ مِنْ جهة المعنى؛ وذلك أنَّ قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبْتُم بِهِ‏}‏ يتضمَّن أنَّكم واقعتم مَا تَسْتَوْجِبُون به العَذَابَ إلاَّ أنه ليس عنْدِي‏.‏

والآخَرُ‏:‏ مِنْ جهة لَفْظِ الاستعجالِ الذي لَمْ يأت في القُرآن إلاَّ للعذابِ‏.‏

وأما اقتراحهم للآيَاتِ، فَلمْ يكُنْ باستعجال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنِ الحكم إِلاَّ لِلَّهِ‏}‏، أي‏:‏ القضاءُ والإنفاذُ، و‏{‏يَقُصُّ الحق‏}‏، أيْ‏:‏ يخبر به، والمعنى‏:‏ يقُصُّ القَصَص الحَقَّ، وقرأ حمزةُ والكِسَائيُّ وغيرهما‏:‏ «يَقْضِي الحَقَّ»، أي‏:‏ يُنْفِذُهُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏58‏)‏ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏‏:‏ المعنى‏:‏ لو كان عندي الآياتُ المُقْتَرَحةُ، أو العذابُ؛ علَى التأويل الآخر، لقُضِيَ الأمر، أي‏:‏ لَوَقَع الانفصال، وتَمَّ النزاعُ؛ لظهور الآية المُقْتَرَحَةِ، أو لِنزولِ العذابِ؛ بحسب التأْويلَيْنِ، وقِيلَ‏:‏ المعنى‏:‏ لَقَامَتِ القيامةُ، وقوله‏:‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بالظالمين‏}‏‏:‏ يتضمَّن الوعيدَ والتَّهْديدَ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏‏:‏ مفَاتِحُ‏:‏ جَمْعُ مَفْتَحٍ، وهذه استعارة؛ عبارةً عن التوصُّل إلى الغيوب؛ كما يَتوصَّل في الشاهِدِ بالمِفْتَاحِ إلى المُغَيَّب، ولو كان جَمْعَ «مِفْتَاحٍ»، لقال‏:‏ مَفَاتِيح، ويظهرُ أيضاً أنَّ «مَفَاتِح» جمْعُ «مَفْتَح» بفتح الميم، أي‏:‏ مواضِعِ تَفْتَحُ عن المغيَّبات؛ ويؤيِّد هذا قَوْلُ السُّدِّيِّ وغيره‏:‏ ‏{‏مَفَاتِحُ الغيب‏}‏‏:‏ خزائِنُ الغَيْب، فأما مِفْتَح بالكسر، فهو بمعنى مِفْتَاح، قال الزَّهْرَاوِيُّ‏:‏ وَمِفْتَحٌ أفصحُ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره‏:‏ الإشارةُ بِمَفَاتِحِ الغَيْبِ هي إلى الخَمْسة في آخر لُقْمَان‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏ الآية، قلت‏:‏ وفي «صحيحِ البخاريِّ»، عن سالمِ بنِ عبد اللَّهِ، عَنْ أبيه؛ أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ ‏"‏ مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِى الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏ ‏"‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِن وَرَقَةٍ‏}‏، أي‏:‏ من وَرَقِ النَّبَاتِ، ‏{‏وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظلمات الأرض‏}‏، يريدُ‏:‏ في أشدِّ حالِ التَّغَيُّبِ، وحكى بعضُ النَّاسِ عن جَعْفَرِ بنِ محمَّد قولاً‏:‏ أنَّ الورقَةَ يُرَادُ بها السِّقْطُ مِنْ أولادِ بني آدم، والحَبَّة‏:‏ يرادُ بها الذي لَيْسَ بِسِقْطٍ، والرَّطْب يرادُ به الحَيُّ، واليابسُ يراد به المَيِّت، وهذا قولٌ جارٍ على طريقةِ الرُّمُوز، ولا يصحُّ عن جعفر بن محمَّد، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إلَيْه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ‏}‏، قيل‏:‏ يعني كتاباً على الحقيقةِ، ووجْهُ الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحَفَظَةُ، وذلك أنَّه رُوِيَ أنَّ الحَفَظَةَ يرفَعُونَ مَا كَتَبُوهُ، ويُعَارِضُونَهُ بهذا الكِتَابِ المُشَارِ إلَيْه؛ ليتحقَّقوا صِحَّة ما كتبوه، وقيل‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ فِي كتاب‏}‏‏:‏ عِلْمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ المحيطِ بكلِّ شيءٍ‏.‏

قال الفَخْرُ‏:‏ وهذا هو الأصْوَبُ، ويجوزُ أنْ يقالَ‏:‏ ذَكر تعالى ما ذَكَر مِنَ الوَرَقَةِ وَالحَبَّة؛ تنبيهاً للمكلَّفين على أمر الحساب‏.‏ انتهى‏.‏

قال مَكِّيٌّ‏:‏ قالَ عبْدُ اللَّه بْنُ الحارِثِ‏:‏ ما في الأرْض شَجَرٌ، ولا مَغْرَزُ إبرةٍ إلاَّ علَيْها مَلَكٌ، موكَّل، يأتي اللَّه بعلْمها بيَبَسِها إذا يَبِسَتْ، ورُطُوبَتِها إذا رَطِبَتْ‏.‏

وقيل‏:‏ المعنى في كَتْبِها؛ أنه لتعظيمِ الأمرِ، ومعناه‏:‏ اعلموا أنَّ هذا الذي لَيْسَ فيه ثوابٌ ولا عقابٌ مكتوبٌ؛ فكيف ما فِيهِ ثوابٌ أو عقابٌ‏.‏ انتهى من «الهداية»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 64‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏60‏)‏ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ‏(‏61‏)‏ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ‏(‏62‏)‏ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل‏}‏، يعني به‏:‏ النَّوْمَ، و‏{‏يَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم‏}‏، أي‏:‏ مَا كَسَبْتم بالنَّهار، ويحتمل أنْ يكون ‏{‏جَرَحْتُم‏}‏ هنا من الجرح؛ كأن الذنْبَ جرح في الدِّين، والعربُ تقولُ‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ اليَدِ

و ‏{‏يَبْعَثُكُمْ‏}‏‏:‏ يريد به الإيقاظَ، والضميرُ في ‏{‏فِيهِ‏}‏ عائدٌ على النهار؛ قاله مجاهد وغيره، ويحتملُ أنْ يعود الضمير على التوفِّي، أي‏:‏ يوقظُكُم في التوفِّي، أي‏:‏ في خلالِهِ وتضاعِيفِهِ؛ قاله عبد اللَّه بن كَثير‏.‏

و ‏{‏ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏‏:‏ المراد به آجالُ بني آدمَ، ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏؛ يريدُ‏:‏ بالبَعْثِ والنشورِ، ‏{‏ثُمَّ يُنَبِّئُكُم‏}‏، أي‏:‏ يُعْلِمُكُمْ إعلامَ توقيفٍ، ومحاسبةٍ، ففي هذه الآية إيضاحُ الآياتِ المنصوبةِ للنَّظَر، وفيها ضَرْبُ مثالٍ للبعْثِ من القبور؛ لأن هذا أيضاً إماتةٌ وبعْثٌ على نَحوٍ مَّا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ‏}‏‏:‏ القاهرُ إنْ أُخِذَ صِفَةَ فِعْلٍ، أي‏:‏ مظهر القَهْر بالصواعقِ والرياحِ والعذابِ، فيصحُّ أنْ تجعل ‏{‏فَوْقَ‏}‏ ظرفيةً للجهةِ؛ لأن هذه الأشياء إنما تعاهَدَها العبادُ مِنْ فوقهم، وإنْ أُخِذَ ‏{‏القاهر‏}‏ صفَةَ ذَاتٍ، بمعنى القُدْرة والاستيلاء، ف ‏{‏فَوْقَ‏}‏‏:‏ لا يجوزُ أنْ تكون للجهةِ، وإنما هي لعلُوِّ القَدْر والشِّأن؛ على حد ما تقولُ‏:‏ اليَاقُوتُ فَوْقَ الحَدِيدِ، والأحرارُ فَوْقَ العبيدِ، و‏{‏يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يَبُثُّهم فيكم، و‏{‏حَفَظَةً‏}‏‏:‏ جمع حَافِظٍ، والمراد بذلكَ الملائكةُ الموكَّلون بكَتْبِ الأعمال، ورُوِيَ أنهم الملائكةُ الَّذين قالَ فيهِمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يَتَعاقَبُ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ ‏"‏؛ وقال السُّدِّيُّ وقتادة، وقال بعْض المفسِّرين‏:‏ حَفَظَةً يَحفظُونَ الإنسانَ مِنْ كلِّ شيءٍ؛ حتى يأتي أجله، والأول أظهر‏.‏

وقرأ حمزةُ وحْده‏:‏ «تَوَفَّاهُ»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رُسُلُنَا‏}‏‏:‏ يريد به؛ على ما ذكر ابنُ عباس، وجميعُ أهل التأويل‏:‏ ملائكةً مقترنينَ بمَلَكِ المَوْت، يعاونونه ويَأْتَمِرُونَ له، ‏{‏ثُمَّ رُدُّواْ‏}‏، أي‏:‏ العبادُ، ‏{‏إلى الله مولاهم‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الحق‏}‏‏:‏ نعْتٌ ل ‏{‏مولاهم‏}‏، ومعناه‏:‏ الذي لَيْسَ بباطلٍ، ولا مَجَاز، ‏{‏أَلاَ لَهُ الحكم‏}‏‏:‏ كلامٌ مضمَّنه التنبيهُ، وهَزُّ النفوسِ، ‏{‏وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين‏}‏‏:‏ قيل لِعَليٍّ ‏(‏رضي اللَّه عنه‏)‏‏:‏ كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ العِبَادَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ‏؟‏‏!‏ قَالَ‏:‏ كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظلمات البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا تَمَادٍ في توبيخِ العادِلِينَ باللَّه الأوثانَ، وتركِهِمْ عبادَةَ الرَّحْمَنِ الذي يُنْجِي من الهَلَكَاتِ، ويُلْجَأُ إلَيْه في الشَّدَائد، ودَفْعِ الملمَّاتِ، و‏{‏ظلمات البر والبحر‏}‏‏:‏ يريدُ بها شدائِدَهُما، فهو لفظٌ عامٌّ يستغرقُ ما كان مِنَ الشدائدِ؛ بظلمةٍ حقيقيةٍ، وما كان بغَيْر ظلمةٍ، والعَرَبُ تقول‏:‏ عَامٌ أَسْوَدُ، ويَوْمٌ مُظْلِمٌ، ويَوْمٌ ذو كواكِبَ، يريدُونَ به الشِّدَّة، قال قتادة وغيره‏:‏ المعنى‏:‏ مِنْ كَرْبِ البَرِّ والبَحْرِ، وتَدْعُونَهُ‏:‏ في موضعِ الحالِ، والتَّضَرُّعُ‏:‏ صفَةٌ باديةٌ على الإنسانِ، وخُفْيَة‏:‏ معناه‏:‏ الاختفاء، وقرأ عاصمٌ في رواية أبي بَكْر‏:‏ «وخِفْيةَ» بكسر الخاء، وقرأ الأعمشُ‏:‏ «وخِيفَةً»؛ من الخَوْف‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ سبق في المُجَادَلة إلى الجَوَابِ؛ إذْ لا محيدَ عنْه، ‏{‏وَمِن كُلِّ كَرْبٍ‏}‏‏:‏ لفظٌ عامٌّ أيضاً، ليتَّضِحَ العُمُومُ الذي في «الظلماتِ»، ‏{‏ثُمَّ أَنتُمْ‏}‏، أي‏:‏ ثم بَعْدَ معرفتكم بهذا كلِّه، وتحَقُّقِكُمْ له، أنْتُمْ تُشْرِكُونَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏66‏)‏ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذا إخبارٌ يتضمَّن الوعيدَ، والأظهرُ مِنْ نَسَقِ الآياتِ‏:‏ أنَّ هذا الخطابَ للكفَّار الذين تَقَدَّم ذكرهم، وهو مَذْهَبُ الطبريِّ‏.‏

وقال أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وجماعة‏:‏ هو للمؤمِنِينَ، وهم المرادُ‏.‏

وهذا الاختلافُ إنما هو بحَسَبِ ما يَظْهَرُ منْ أنَّ الآية تتناوَلُ معانِيهَا المشركِينَ والمؤمنينَ؛ وفي «البخاريِّ» وغيره مِنْ حَدِيثِ جابرٍ وغيره‏:‏ ‏"‏ أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لما نزلَتِ الآيةُ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، فلما نزلَتْ‏:‏ ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، فلما نزلَتْ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ‏}‏ قال‏:‏ هذه أهونُ أو أيَسر ‏"‏؛ فاحتج بهذا الحديثِ مَنْ قال‏:‏ إنَّها نَزَلَتْ فِي المؤمنينَ، قال الطَّبريُّ وغيره‏:‏ مُمْتَنِعٌ أنْ يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم تعوَّذ لأمَّته مِنْ هذه الأشياءِ الَّتي توعَّد بها الكُفَّار، وهَوَّنَ الثالثةَ؛ لأنَّها بالمعنى هي التي دعا فيها، فمنع حسب حديثِ «المُوطَّإ» وغيره، و‏{‏مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏‏:‏ لفظٌ عامٌّ للمنطبقِينَ علَىَ الإنسان، وقال السُّدِّيُّ، عن أبي مالِكٍ‏:‏ ‏{‏مِّن فَوْقِكُمْ‏}‏‏:‏ الرَّجْم، ‏{‏أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ‏}‏‏:‏ الخَسْف؛ وقاله سعيدُ بن جُبَيْر ومجاهد‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يخلِّطكم فِرَقاً، والبأْسُ‏:‏ القَتْل، وما أشبهه من المَكَارِهِ، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الأيات‏}‏‏:‏ استرجاعٌ لهم، وإنْ كان لفظها لَفْظَ تعجيب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فمضمَّنها أنَّ هذه الآياتِ والدلائلَ؛ إنما هي لاستصرافهم عن طريقِ غَيِّهم، والفِقْهُ‏:‏ الفَهْمُ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق‏}‏، الضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ عائدٌ على القُرآن الذي فيه جاءَ تصريفُ الآياتِ؛ قاله السُّدِّيُّ، وهذا هو الظاهرُ، ويحتملُ أنْ يعود الضميرُ على الوَعِيدِ الذي تضمَّنَتْه الآيةُ، ونحا إليه الطبريُّ، وقوله‏:‏ ‏{‏قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ لسْتُ بمدفوعٍ إلى أخْذكم بالإيمان والهدى، وهذا كان قَبْلَ نزول آياتِ الجهادِ والأمْرِ بالقتالِ، ثم نُسِخَ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ‏}‏‏:‏ أيْ‏:‏ غايةٌ يعرف عنْدَها صِدْقُه من كَذبِه، و‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏‏:‏ تهديدٌ محْضٌ ووعيدٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِي ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏‏:‏ هذا خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون داخلُونَ في الخطاب معه، هذا هو الصحيحُ؛ لأنَّ علَّة النهْي، وهي سماعُ الخَوْض في آياتِ اللَّه، تَشْمَلُهُمْ وإيَّاه، فأُمِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو والمؤمنون أنْ ينابذُوا الكُفَّار بالقيام عنهم، إذا استهزءوا وخاضوا؛ ليتأدَّبوا بذلك، ويدَعُوا الخَوْضَ والاستهزاءَ، قلْتُ‏:‏ ويدلُّ على دخولِ المؤمنينَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الخطابِ قولُهُ تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايات الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏‏.‏ انتهى‏.‏

والخَوْضُ‏:‏ أصله في الماءِ، ثم يستعملُ بعدُ في غمرات الأشياء التي هي مجاهلُ؛ تشبيهاً بغَمَرَات الماء‏.‏

‏{‏وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ‏}‏‏:‏ «إما»‏:‏ شرط، وتلزمها النونُ الثقيلة في الأغلب، وقرأ ابن عامر وحده‏:‏ «يُنَسِّيَنَّكَ» بتشديدِ السينِ، وفتحِ النونِ، والمعنى واحدٌ إلا أن التشديد أكثر مبالغةً، و‏{‏الذكرى‏}‏ والذِّكْر واحدٌ في المعنى، ووصْفُهم ب ‏{‏الظالمين‏}‏ متمكِّن؛ لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، و‏{‏أَعْرِضْ‏}‏؛ في هذه الآية‏:‏ بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض، وأكملِ وجوهه؛ ويدُلُّ على ذلك‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَقْعُدْ‏}‏‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء‏}‏، وروي أنه لما نزلَتْ‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 140‏]‏ قال المؤمنون إذا كنا لا نقْرَبُ المشركين، ولا نسمع أقوالهم، فلا يمكننا طَوَافٌ ولا قضاءُ عبادةٍ في الحرمِ، فنزلَتْ لذلك‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

قال * ع *‏:‏ فالإباحة في هذا هي في القَدْر الذي يحتاجُ إلَيْه من التصرُّف بَيْن المشركين في عبادةٍ ونحوها، وقيل‏:‏ إن هذه الآية الأخيرةَ ليْسَتْ إباحة بوجه، وإنما معناها‏:‏ لا تَقْعُدوا معهم، ولا تَقْرَبوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود؛ لأنَّ عليكم شيئاً من حسابهم، وإنما هو ذكرى لكم، ويحتملُ المعنى‏:‏ ولكنْ ذكرى لعلَّهم إذا جانبتموهم، يتقون بالإمساكِ عن الاستهزاءِ، ويحتملُ المعنى‏:‏ ولكن ذكِّروهم ذكرى، وينبغي للمؤمن أنْ يمتثل حكم هذه الآية مع المُلْحِدِين، وأهْلِ الجدلِ والخَوْضِ فيه، وحكى الطبريُّ، عن أبي جعفر؛ أنه قال‏:‏ «لاَ تُجَالِسُوا أَهْلَ الخُصُومَاتِ؛ فإنَّهُمْ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ»، وفي الحديث، عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ؛ وَإنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ؛ وإنْ كَانَ مَازِحاً، وبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقه ‏"‏، خَرَّجه أبو داود‏.‏ انتهى من «الكوكب الدري»، وقد ذكرنا هذا الحديثَ من غير طريقِ أبي داود بلفظ أوضَحَ من هذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 73‏]‏

‏{‏وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏70‏)‏ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏71‏)‏ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَذَرِ الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً‏}‏‏:‏ هذا أمر بالمتاركة، وكان ذلك بحَسَب قلَّة المسلمين يومَئِذٍ، قال قتادة‏:‏ ثم نُسِخَ ذلك، وما جرى مجراه بالقتَالِ، وقال مجاهد‏:‏ الآيةُ إنما هي للتهديدِ والوعيدِ، فهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 11‏]‏، وليس فيها نَسْخٌ؛ لأنها متضمنة خبراً، وهو التهديدُ، ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا‏}‏، أيْ‏:‏ خدعتهم من الغُرُور، وهو الأطماعُ بما لا يتحصَّل فاغتروا بنعم اللَّه وإمهاله، وطَمَعُهُمْ ذلك فيما لم يتحصَّل من رحمته، واعلم أنَّ أعقلَ العقلاء مؤمنٌ مقبِلٌ على آخرته قد جَعَلَ الموْتَ نُصْبَ عينيه، ولم يغترَّ بزخارف الدنيا؛ كما اغتر بها الحمقى، بل جعل همَّهُ واحداً؛ هَمَّ المعادِ وما هو صائرٌ إليه؛ وقد روى البَزَّار في مسنده، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ جَعَلَ الهُمُومَ هَمًّا وَاحِداً؛ هَمَّ المَعَادِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ الدُّنْيَا، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الهُمُومُ؛ هُمُومُ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ تعالى فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ ‏"‏ انتهى من «الكوكب الدريِّ»‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَذَكِّرْ بِهِ‏}‏‏:‏ أي بالقرآن، وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ به عائدٌ على الدِّين، و‏{‏أَن تُبْسَلَ‏}‏ في موضع المفعولِ له، أي‏:‏ لَئِلاَّ تُبْسَلَ، ومعناه‏:‏ تُسْلَمَ؛ قاله الحسن وعكرمة وقال قتادةُ‏:‏ تُحْبَسَ وتُرْهَنْ، وقال ابن عبَّاس‏:‏ تُفْضَح، وقال ابن زيد‏:‏ تجزى، وهذه كلُّها متقاربةُ المعنى؛ ومنه قول الشنفرى‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

هُنَالِكَ لاَ أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي *** سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلاً بِالْجَرَائِرِ

وباقي الآية بيِّن‏.‏

‏{‏وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ‏}‏، أي‏:‏ وإن تعط كلَّ فدية، وإنْ عظُمت، فتجعلها عِدْلاً لها، لا يُقْبَل منها، وقال أبو عُبَيْدة‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعْدِلْ‏}‏، هو من العَدْلِ المضادِّ للجور؛ وردَّه الطبريُّ بالإجماع على أنَّ توبة الكافر مقبولةً،

قال * ع *‏:‏ ولا يلزم هذا الردُّ، لأنَّ الأمر إنما هو يوم القيامة، ولا تقبلُ فيه توبة، ولا عملٌ‏.‏ قلْتُ‏:‏ وأجلى من هذا أنْ يحمل كلامُ أبي عُبَيْدة على معنى أنَّه لا يقبلُ منها عدلُها؛ لاختلال شَرْطه، وهو الإيمانُ، و‏{‏أُبْسِلُواْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ أُسْلِمُوا بما اجترحوه من الكُفْر، والحميمُ‏:‏ الماءُ الحارُّ؛ ومنه‏:‏ الحَمَّام، والحَمَّة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا‏}‏، المعنى‏:‏ قل في احتجاجك‏:‏ أنطيع رأيكم في أنْ ندعو من دون اللَّه، والدعاءُ‏:‏ يعم العبادة وغيرها؛ لأن مَنْ جعل شيئاً موضعَ دعائه، فإياه يَعْبُدُ، وعليه يتوكَّل، و‏{‏مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ الأصنام، ‏{‏وَنُرَدُّ على أعقابنا‏}‏‏:‏ تشبيهٌ بمَشْيِ القهقرى، وهي المِشْية الدنيَّة؛ فاستعمل المَثَل بها فيمَنْ رجَعَ مِنْ خيرٍ إلى شَرٍّ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كالذي استهوته الشياطين‏}‏ في الكلام حذفٌ، تقديره‏:‏ ردًّا كَرَدِّ الذي، و‏{‏استهوته‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ استدعت هواه وأمالته، و‏{‏هَدَانَا‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ أرشَدَنَا، فسياقُ هذا المثل كأنه قال‏:‏ أيَصْلُحُ أن نكون بعد الهدى نعبد الأصنام؛ فيكون ذلك منَّا ارتدادا على العَقِبِ؛ فنكون كَرَجُلٍ على طريق واضحٍ، فاستهوته عنه الشياطينُ، فخرج عنه إلى دعوتهم، فبقي حائراً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لَهُ أصحاب‏}‏‏:‏ يريد‏:‏ له أصحابٌ على الطريق الذي خَرَجَ منه، فيشبَّه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يَدْعُونَ مَن ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويلُ مجاهد وابن عباسٍ، و‏{‏ائتنا‏}‏؛ في هذه الآية‏:‏ عبدُ الرحمنِ بْنُ أبي بَكْرٍ‏:‏ وبالأصحاب‏:‏ أبواه قول ضعيفٌ؛ يردُّه قول عائشة في الصحيحِ‏:‏ «مَا نَزَلَ فِينَا مِنَ القُرآنِ شَيْءٌ إلاَّ بَرَاءَتِي»، قلتُ‏:‏ تريد وقصَّة الغارِ؛ ‏{‏إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 22‏]‏؛ إذ نزلَتْ في شأن أبي بكر، وشأن مِسْطَحٍ‏.‏

قال * ع *‏:‏ حدثني أبي ‏(‏رضي اللَّه عنه‏)‏ قال‏:‏ سمعْتُ الفقيه الإمام أبا عبد اللَّه المعروفَ بالنحْويِّ المجاوِرِ بمكَّة، يقول‏:‏ مَنْ نازع أحداً من المُلْحِدِينَ، فإنما ينبغي أن يردَّ عليه بالقرآن والحديث؛ فيكونُ كَمَنْ يدعو إلى الهدى بقوله‏:‏ ‏{‏ائتنا‏}‏، ومَنْ ينازعهم بالجَدَل، ويحلِّق عليهم به، فكأنه بَعُدَ من الطريق الواضح أكْثَرَ، ليردَّ هذا الزائغَ، فهو يخافُ علَيْه أنْ يضلَّ‏.‏

قال * ع *‏:‏ وهذال انتزاعٌ حسنٌ جدًّا، وباقي الآية بيِّن‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض بالحق‏}‏، أي‏:‏ لم يخلقْها باطلاً لغير معنًى، بل لمعانٍ مفيدةٍ، وحقائقَ بيِّنة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ‏}‏ «يوم»‏:‏ نصب على الظرْفِ، وتقديرُ الكلامِ‏:‏ واذكر الخَلْق والإعادة يَوْمَ، وتحتمل الآية مع هذا أنْ يكون معناها، واذكر الإعادة يَوْمَ يقولُ اللَّه للأجساد‏:‏ كوني معادةً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور‏}‏، الجمهورُ أنَّ الصُّورَ هو القَرْن الذي قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ لِلصَّعْقِ ثُمَّ لِلْبَعْثِ ‏"‏، وباقي الآية بيِّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّي أراك وَقَوْمَكَ فِي ضلال مُّبِينٍ‏}‏، قال الطبري‏:‏ نبه اللَّه نبيَّنا محمداً صلى الله عليه وسلم على الاِقتداء بإبراهيم في محاجَّته قومَه؛ إذ كانوا أهل أصْنَام، وكان قومُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أهْلَ أصنام، وقوله‏:‏ ‏{‏أَصْنَاماً ءَالِهَةً‏}‏‏:‏ مفعولانِ، وذُكِرَ أن آزر أبا إبراهيِمَ عليه السلام كَانَ نَجَّاراً محسناً، ومهنْدِساً، وكان نُمْرُود يتعلَّق بالهندسةِ والنجُومِ، فحَظِيَ عنده آزر لذلك، وكان على خُطَّةِ عملِ الأَصنامِ تُعْمَلُ بأمره وتَدْبيره، ويَطْبَع هو في الصنمِ بخَتْمٍ معلومٍ عنده؛ وحينئذٍ يُعْبَدُ ذلك الصنمُ، فلما نشأ إبراهيمُ ابنه على الصفة التي تأتي بعْدُ، كان أبوه يكلِّفه ببيعها، فكان إبراهيم ينادِي عليها‏:‏ مَنْ يَشْتَري ما يضرُّه ولا ينفعه، ويستخفُّ بها، ويجعلها في الماءِ منكوسةً، ويقول لها‏:‏ اشربي، فلما اشتهر أمْرُه بذلك، وأخذ في الدعاءِ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، قال لأبيه هذه المقالةَ، و‏{‏أراك‏}‏؛ في هذا الموضعِ‏:‏ يشترك فيها القلبُ والبصرُ، و‏{‏مُّبِينٌ‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ ظاهر واضح‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك نُرِي إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض‏}‏‏:‏ الآيةُ المتقدِّمةُ تقْضِي بهدايةِ إبْرَاهيم عليه السلام، والإشارةُ ب «ذلك» هي إلى تلك الهداية، أي‏:‏ وكما هدَيْنَاه إلى الدعاء إلى اللَّه وإنكارِ الكُفْر، أريناه ملكوتَ، و‏{‏نُرِي‏}‏‏:‏ لفظها‏:‏ الاستقبال، ومعناها‏:‏ المضيُّ، وهذه الرؤْية قيل‏:‏ هي رؤية البَصَر، ورُوِيَ في ذلك؛ أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ فرج لإِبراهيم عليه السلام السمواتِ والأرْضَ؛ حتى رأَى ببَصَره الملكوتَ الأعلى، والملكوتَ الأسفلَ؛ وهذا هو قولُ مجاهدٍ قال‏:‏ تفرَّجتْ له السمواتُ والأرَضُون، فرأى مكانه في الجنَّة، وبه قال سعيدُ بنُ جُبَيْر، وسلمانُ الفارسيُّ، وقيل‏:‏ هي رؤيةَ بَصرٍ في ظاهر الملكوت، وقع له معها من الاعتبارِ ورؤيةِ القَلْب‏:‏ ما لم يقعْ لأحد من أهل زمنه الذين بُعِثَ إليهم؛ قاله ابن عباس وغيره، وقيل‏:‏ هي رؤية قَلْب، رأى بها ملكوتَ السمواتِ والأرضِ بفكرته ونظره، و‏{‏مَلَكُوتَ‏}‏‏:‏ بناءُ مبالغةٍ، وهو بمعنى المُلْك، والعربُ تقول‏:‏ لفلانٍ مَلَكُوتُ اليَمَنِ، أي‏:‏ مُلْكُه، واللام في‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَ‏}‏‏:‏ متعلِّقة بفعلٍ مؤخَّر، تقديره‏:‏ وليكونَ من الموقنين، أَرَيْنَاهُ، والمُوقُنِ‏:‏ العالِمُ بالشيء علماً لا يمكنُ أنْ يطرأ له فيه شك، وروي عن ابنِ عبَّاس في تفسير‏:‏ ‏{‏وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين‏}‏ قال‏:‏ جلى له الأمورَ سرَّها وعلانيتَها، فلم يَخْفَ عليه شيْءٌ من أعمال الخلائق، فلما جعل يلْعَنُ أصحابَ الذنوبِ، قال اللَّه له‏:‏ إنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ هذا، فَرَدَّه لا يرى أعمالهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 79‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل رَءَا كَوْكَباً قَالَ هذا رَبِّي‏}‏ الآية‏:‏ جَنَّ اللَّيْلُ‏:‏ ستَرَ وغطى بظلامه، ذهب ابن عباس وناسٌ كثيرون إلى أنَّ هذه القصة وقعَتْ في حال صباه وقبل البلوغ والتكليفِ، ويحتملُ أنْ تكون وقعتْ له بعد بلوغه وكونه مكلَّفاً، وحكى الطبريُّ هذا عَنْ فرقةٍ، وقالتْ‏:‏ إنه استفهم قومَهُ؛ على جهة التوقيفِ والتوبيخِ، أي‏:‏ هذا ربِّي، وحكي أن النمرودَ جَبَّارَ ذلك الزمان رأى له منجِّموه أنَّ مولوداً يُولَدُ في سَنَةِ كذا في عمله يكون خَرَابُ المُلْك على يديه، فجعل يَتَتَبَّعُ الحبالى، ويوكِّل بهن حُرَّاساً، فمن وضَعَتْ أنثى، تُركَتْ، ومَنْ وضعتْ ذكَراً، حمل إلى المَلِك فذَبَحه، وأن أمَّ إبراهيمَ حَمَلَتْ، وكانَتْ شابَّة قويةً، فسَتَرَتْ حملها، فلما قربت ولادتُها، بعثَتْ أبا إبراهيم إلى سَفَر، وتحيَّلت لمضيِّه إليه، ثم خرجَتْ هي إلى غارٍ، فولدَتْ فيه إبراهيم، وتركته في الغار، وكانَتْ تتفقَّده فوجدَتْه يتغذى بأنْ يمصَّ أصابعه، فيخرج له منها عسلٌ وسَمْنٌ ونحو هذا، وحُكِيَ‏:‏ بل كان يغذِّيه مَلَكٌ، وحُكِيَ‏:‏ بل كانَتْ أمه تأتيه بألبان النِّساء التي ذُبِحَ أبناؤهن، واللَّه أعلم، أيُّ ذلك كان، فشبَّ إبراهيم أضعافَ ما يشب غيره، والمَلِكُ في خلالِ ذلك يحسُّ بولادته، ويشدِّد في طلبه، فمكَثَ في الغار عَشَرَةَ أعوامٍ، وقيل‏:‏ خمسَ عَشْرة سنةً، وأنه نظر أول ما عَقَل من الغارِ، فرأى الكواكِبَ، وجرَتْ قصة الآية، واللَّه أعلم‏.‏

فإن قلنا بأنه وقعَتْ له القصَّة في الغارِ في حال الصَّبْا، وعدمِ التكليفِ؛ على ما ذهب إليه بعض المفسِّرين، ويحتمله اللفظ، فذلك ينقسمُ على وجْهين‏:‏ إما أنْ يجعل قوله‏:‏ ‏{‏هذا رَبِّي‏}‏ تصميماً واعتقادا، وهذا باطلٌ؛ لأن التصميم على الكُفْر لم يقع من الأنبياء صلوات اللَّه عليهم، وإما أنْ نجعله تعريضاً للنظر والاستدلال؛ كأنه قال‏:‏ أَهَذَا المُنِيرُ البهيُّ ربِّي؛ إنْ عَضَّدتَ ذلك الدلائلُ‏.‏

وإن قلنا‏:‏ إن القصَّة وقَعَتْ له في حال كِبَرِهِ، وهو مكلَّف، فلا يجوز أنْ يقولَ هذا مصمِّماً ولا مُعَرِّضاً للنظر؛ لأنها رتبة جهلٍ أو شكٍّ، وهو عليه السلام منزَّه معصوم من ذلك كلِّه؛ فلم يبق إلاَّ أنْ يقولها على جهة التَّقْرير لقومه والتوبيخ لهم، وإقامةِ الحُجَّة عليهم في عبادة الأصنام؛ كأنه قال‏:‏ أَهَذَا المُنِيرُ ربِّي، وهو يريد‏:‏ على زعمكم؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِيَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 27‏]‏، أي‏:‏ على زعمكم، ثم عَرَضَ إبراهيم عليهم مِنْ حَرَكَة الكوكب وأفولِهِ أَمارةَ الحدوث، وأنه لا يصلحُ أن يكون ربًّا، ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك، ثم في الشَّمْس كذلك؛ فكأنه يقول‏:‏ فإذا بان في هذه المُنِيرَاتِ الرفيعةِ؛ أنها لا تصلح للربوبيَّة، فأصنامكم التي هي خشبٌ وحجارةٌ أحرى أنْ يبين ذلك فيها؛ ويَعْضُدُ عندي هذا التأويلَ قولُهُ‏:‏ ‏{‏إِنّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏، قلت‏:‏ وإلى ترجيحِ هذا أشار عِيَاضٌ في «الشفا»؛ قال‏:‏ وذهب معظمُ الحُذَّاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال ذلك مبكِّتاً لقومه، ومستدلاًّ عليهم‏.‏

قال * ع *‏:‏ ومَثَّلَ لهم بهذه الأمور؛ لأنهم كانوا أصْحَابَ علْمِ نجومٍ ونظرٍ في الأفلاك، وهذا الأمر كلُّه إنما وقع في ليلةٍ واحدةٍ، رأى الكوكب، وهو الزُّهْرَةُ في قولِ قتادة، وقال السُّدِّيُّ‏:‏ هو المشتري جانحاً إلى الغروب، فلما أَفَلَ بزغ القمر، وهو أول طلوعه، فَسَرَى الليل أجْمَعُ، فلما بزغَتِ الشمسُ، زال ضوء القمرِ قبلها؛ لانتشار الصباحِ، وخَفِيَ نوره، ودنا أيضاً مِنْ مغربه، فسمى ذلك أفولاً؛ لقربه من الأُفُولِ التامِّ؛ على تجوُّز في التسمية، وهذا الترتيبُ يستقيمُ في الليلة الخامسةَ عَشَرَ من الشَّهْر إلى ليلة عشْرين، وليس يترتَّب في ليلةٍ واحدة؛ كما أجمع أهل التفسير، إلاَّ في هذه الليالي، وبذلك يصحُّ التجوُّز في أفول القمر، «وأَفَلَ»؛ في كلام العرب‏:‏ معناه‏:‏ غاب، وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ذَهَبَ، وهذا خلافٌ في العبارة فقَطْ، والبزوغُ في هذه الأنوارِ‏:‏ أوَّلُ الطلوع، وما في كَوْنِ هذا الترتيب في ليلةٍ من التجوُّز في أفول القمر؛ لأنَّ أفوله لو قدَّرناه مَغِيبَهُ، لكان ذلك بَعْد بزوغ الشمسِ، وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار، و‏{‏يَهْدِنِي‏}‏‏:‏ يرشدْنِي؛ وهذا اللفظ يؤيِّد قول من قال‏:‏ إن القصة في حالِ الصِّغَر، والقومُ الضالُّون هنا عبدةُ المخلوقاتِ؛ كالأصنام وغيرها، ولما أفَلَتِ الشمسُ، لم يبقَ شيءٌ يمثِّل لهم به، فظهرَتْ حُجَّته، وقَوِيَ بذلك على منابذتهم والتبرِّي من إشراكهم، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏‏:‏ يؤيِّد قول من قال‏:‏ إن القصة في حال الكِبر والتكليفِ، و‏{‏وَجَّهْتُ وَجْهِيَ‏}‏، أي‏:‏ أقبلْتُ بقَصْدي وعبادتِي وتوحيدِي وإيمانِي للذي فَطَر السمواتِ والأرْضَ، أي‏:‏ اخترعها و‏{‏حَنِيفاً‏}‏‏:‏ أي مستقيماً، والحَنَف‏:‏ المَيْل؛ فكأنه مال عن كلِّ جهةٍ إلى القِوَامِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 82‏]‏

‏{‏وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّي فِي الله‏}‏، أي‏:‏ أتراجعوني في الحجَّة في توحيد اللَّه، ‏{‏وَقَدْ هدان‏}‏، أي‏:‏ قد أرشدني إلى معرفتِهِ وتوحيده، ‏{‏وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ‏}‏، الضميرُ في ‏{‏بِهِ‏}‏ يعودُ على ‏{‏الله‏}‏ والمعنى‏:‏ ولا أخافُ الأصنامُ التي تشركونَهَا باللَّه في الربوبيَّة، ويحتمل أنْ يعود على «ما»، والتقديرُ‏:‏ ما تشركون بسَبَبِهِ، وقوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً‏}‏‏:‏ استثناءٌ ليس من الأوَّل، و‏{‏شَيْئاً‏}‏‏:‏ منصوبٌ ب ‏{‏يَشَاء‏}‏، ولما كانتْ قوة الكلامِ أنه لا يخَافُ ضرراً، استثنى مشيئةَ ربِّه تعالى في أنْ يريده بضُرٍّ، و‏{‏عِلْماً‏}‏‏:‏ نصبٌ على التمييز، وهو مصدرٌ بمعنى الفاعل؛ كما تقول العرب‏:‏ تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقاً، المعنى‏:‏ تصبَّبَ عَرَقُ زَيْدٍ؛ فكذلك المعنى هنا وِسَعِ علْمُ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ، ‏{‏أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ‏}‏‏:‏ توقيفٌ وتنبيه وإظهار لموضعِ التقصيرِ منهم، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآيةَ إلى ‏{‏تَعْلَمُونَ‏}‏، هي كلُّها من قول إبراهيم عليه السلام لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، والمعنى‏:‏ وكيف أخاف أصناماً لا خَطْب لها، إذ نبذتُها، ولا تخافُونَ أنتم اللَّهَ عزَّ وجلَّ، وقد أشركتم به في الربوبيَّة ‏{‏مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا‏}‏ والسلطانُ‏:‏ الحُجَّة، ثم استفهم؛ على جهة التقرير‏:‏ ‏{‏فَأَيُّ الفريقين‏}‏، مني ومنكم ‏{‏أَحَقُّ بالأمن‏}‏، قال أبو حَيَّان‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ‏}‏‏:‏ استفهام، معناه التعجُّب والإنكار‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، قال ابنُ إسحاق، وابنُ زيدٍ، وغيرهما‏:‏ هذا قولٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ ابتداء حُكْمٍ فَصْلٍ عامٍّ لِوَقْتِ مُحاجَّة إبراهيم وغيره، ولكلِّ مؤمن تقدَّم أو تأَخَّر‏.‏

قال * ع *‏:‏ هذا هو البيِّن الفصيحُ الذي يرتبطُ به معنى الآية، ويحسُنُ رصْفها، وهو خبرٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ، و‏{‏يَلْبِسُواْ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ يَخْلِطُوا، والظُّلْم؛ في هذا الموضع‏:‏ الشِّرْك؛ تظاهرت بذلك الأحاديثُ الصحيحةُ، وفي قراءة مجاهدٍ‏:‏ «وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ» ‏{‏وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏، أي‏:‏ راشدون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 86‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ‏}‏‏:‏ «تلك»‏:‏ إشارةٌ إلى هذه الحجَّة المتقدِّمة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاءُ‏}‏، «الدرجات»‏:‏ أصلها في الأجسام، ثم تستعملُ في المراتِبِ والمنازل المعنويَّة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا‏}‏‏:‏ عطْفٌ على «آتينا» وإسحاق ابنُهُ من سارَّة، ويعقوبُ هو ابْنُ إسحاقَ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِن ذُرِّيَّتِهِ‏}‏‏:‏ المعنى‏:‏ وهَدَيْنَا من ذرِّيته، والضمير في ‏{‏ذُرِّيَّتِهِ‏}‏، قال الزَّجَّاج‏:‏ جائزٌ أنْ يعود على إبراهيم، ويعترض هذا بذكْرِ لوطٍ عليه السلام؛ إذ ليس هو مِنْ ذرِّيَّة إبراهيم، بل هو ابْنُ أخيه، وقيلَ‏:‏ ابنُ أختِهِ، ويتخرَّج ذلك عند مَنْ يرى الخالَ أباً، وقيل‏:‏ يعود الضميرُ على نُوحٍ، وهذا هو الجيِّد، ونصْبُ ‏{‏دَاوُودَ‏}‏‏:‏ يحتملُ أنْ يكون ب ‏{‏وَهَبْنَا‏}‏، ويحتمل أنْ يكون ب ‏{‏هَدَيْنَا‏}‏، ‏{‏وكذلك نَجْزِي المحسنين‏}‏‏:‏ وعدٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ لمن أحْسَنَ في عبادته، وترغيبٌ في الإحسان، وفي هذه الآية أنَّ عيسى عليه السلام مِنْ ذرِّية نوحٍ أو إبراهيم؛ بحَسَب الاختلاف في عَوْد الضمير من ‏{‏ذُرِّيَّتِهِ‏}‏، وهو ابنُ ابنة؛ وبهذا يستدلُّ في الأحباس على أنَّ ولد البنْتِ من الذِّرِّيَّة، ويُونُسُ هو ابن متى، ‏{‏وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ عالَمِي زَمَانِهِمْ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 90‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءَابَآئِهِمْ وذرياتهم‏}‏‏:‏ المعنى‏:‏ وهدَيْنا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعاتٍ، ف «مِنْ» للتبعيض، والمراد‏:‏ مَنْ آمن منهم، نبيًّا كان أو غير نبيٍّ، و‏{‏اجتبيناهم‏}‏، أي‏:‏ تخيَّرناهم وهَدَيْنَاهم، أيْ‏:‏ أرشدْناهم إلى الإيمان، والفوز برضا اللَّه عزَّ وجلَّ، والذرية‏:‏ الأبناءُ، ويطلَقُ على جميعِ البَشَر ذرِّيَّة؛ لأنهم أبناء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك هُدَى الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏‏:‏ إشارة إلى النعمة في قوله‏:‏ ‏{‏واجتبيناهم‏}‏ و‏{‏أولئك‏}‏‏:‏ إشارة إلى مَنْ تقدَّم ذكره، والكتابُ يراد به الصُّحُفُ والتوراةُ والإنجيل والزَّبُور‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلآءِ‏}‏‏:‏ إشارة إلى كُفَّار قريشٍ، وإلى كلِّ كافر في ذلك العَصْر؛ قاله ابن عباس وغيره، وقوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين‏}‏‏:‏ هم مؤمنو أهْل المدينة؛ قاله ابن عباس وغيره، والآية على هذا التأويلِ، وإن كان القصْدُ بنزولها هذَيْن الصِّنْفَيْن، فهي تعم الكَفَرة والمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال الحسن وغيره‏:‏ المراد ب «القَوْم»‏:‏ مَنْ تَقَدَّم ذكْره من الأنبياء والمؤمنين، وقال أبو رجاء‏:‏ المرادُ‏:‏ الملائكةُ‏.‏

قلتُ‏:‏ ويحتمل أنْ يكون المراد الجميعَ‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏، والظاهر في الإشارة ب ‏{‏أولئك‏}‏ إلى المذكورين قبلُ من الأنبياء ومَنْ معهم من المؤمنين المهدِّيين، ومعنى الاقتداء‏:‏ اتباع الأثر في القول والفعل والسِّيرة، وإنما يصحُّ اقتداؤه صلى الله عليه وسلم بجميعهم في العقودِ، والإيمان، والتوحيدِ الذي ليْسَ بينهم فيه اختلاف، وأما أعمالُ الشرائع فمختلفةٌ، وقد قال عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، واعلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو وغيره مخاطَبٌ بشَرْع مَنْ قبله في العقود والإيمانِ والتوحيدِ؛ لأنا نجد شرعنا ينبئ أنَّ الكفار الذين كانوا قبل النبيِّ صلى الله عليه وسلم كَأَبَوَيْهِ وغيرهما في النَّار، ولا يُدْخِلُ اللَّهُ تعالى أحداً النار إلا بتَرْك ما كُلِّفَ، وذلك في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏، وغير ذلك، وقاعدةُ المتكلِّمين‏:‏ أن العقل لا يوجِبُ ولا يكلِّف، وإنما يوجب الشرْعُ، فالوجه في هذا أنْ يقال‏:‏ إنَّ آدم عليه السلام فَمَنْ بعده، دعا إلى توحيد اللَّه ‏(‏عزَّ وجلَّ‏)‏ دعاءً عامًّا، واستمر ذلك على العالَمِ، فواجبٌ على الآدميِّ أنْ يبحث عن الشرْعِ الآمِرِ بتوحيدِ اللَّهِ تعالى، وينظر في الأَدلَّة المنصوبة على ذلك؛ بحسب إيجاب الشرعِ النَّظَرَ فيها، ويؤمنَ، ولا يَعْبُدَ غير اللَّه، فمَنْ فَرَضْناه لم يجدْ سبيلاً إلى العلْمِ بشرعٍ آمِرٍ بتوحيد اللَّهِ، وهو مع ذلك لم يَكْفُرْ، ولا عَبَدَ صنماً، بل تخلى، فأولئك أَهْلُ الفَتراتِ الذين أَطْلَقَ عليهم أهل العلْمِ أنهم في الجَنَّة، وهم بمنزلةِ الأطفالِ والمجانينِ، ومَنْ قَصَّرَ في النظر والبَحْث، فعبد صنماً أو غيره، وكَفَرَ، فهو تاركٌ للواجب عليه، مستوجِبٌ للعقاب بالنَّار، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مبعثِهِ ومَنْ كان معه مِنَ النَّاس وقَبْلَه مخاطَبُونَ على أَلْسِنَةِ الأنبياء قَبْلُ بالتوحيد، وغيرُ مخاطبين بفُرُوعِ شرائعهم؛ إذ هي مختلفةٌ، وإذ لم يدعهم إليها نبيٌّ؛ قال الفَخْر‏:‏ واحتجَّ العلماءُ بهذه الآية على أن محمداً صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ من جميع الأنبياءِ عليهم السلام؛ وتقريره‏:‏ أنا بيَّنَّا أنَّ خصال الكمالِ وصفاتِ الشَّرَفِ كانَتْ مفرَّقة فيهم، ثم إنه تعالى، لمَّا ذكر الكل، أمر محمداً صلى الله عليه وسلم أنْ يجمع من خصال الطاعة والعبوديَّة والأخلاقِ الحميدة كُلَّ الصفاتِ التي كانَتْ مفرَّقة فيهم بأجمعهم، ولمَّا أمره اللَّه تعالى بذلك، امتنع أنْ يقال‏:‏ إنه قصَّر في تحصيلها؛ فثبت أنه حَصَّلها، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أنه اجتمع فيه مِنْ خصال الخَيْر ما كان فيهم مفرَّقاً بأسرهم، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أنْ يقال‏:‏ إنه أفضلهم بكلِّيَّتهم؛ واللَّه أعلم‏.‏

انتهى‏.‏

وقرأ حمزة والكسائيُّ‏:‏ «فَبِهُدَاهُمُ اقتد» بحذف الهاءِ في الوَصْل، وإثباتها في الوَقْف، وهذا هو القياسُ شبيهة بألفِ الوَصْل في أنها تُقْطَعُ في الابتداء، وتَسْقُط في الوَصْل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏، أي‏:‏ قل لهؤلاء الكفرة المعاندين‏:‏ لا أسألكم على دعائي إياكم بالقُرآن إلى عبادة اللَّه تعالى أُجْرَةً؛ إن هو إلا موعظةٌ وذكرى ودعاءٌ لجميع العالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 92‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال ابنُ عبَّاس‏:‏ هذه الآيةُ نزلَتْ في بني إسرائيل، قال النَّقَّاش‏:‏ وهي آية مدنية، وقيل‏:‏ المراد رجُلٌ مخصوص منهم، يقال له مالكُ بْنُ الضيْفِ؛ قاله ابن جُبَيْر، وقيل‏:‏ فنْحَاص؛ قاله السُّدِّيُّ، و‏{‏قَدَرُواْ‏}‏‏:‏ هو من توفيَةِ القَدْرِ والمنزلةِ، وتعليلُه بقولهم‏:‏ ‏{‏مَا أَنزَلَ الله‏}‏‏:‏ يقضي بأنهم جَهِلُوا، ولم يعرفوا اللَّه حقَّ معرفتِهِ؛ إذ أحالوا عليه بعثةَ الرُّسُل، قال الفَخْر‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏، أيْ‏:‏ ما عظَّموا اللَّه حقَّ تعظيمه، وقال الأخفشُ‏:‏ ما عَرَفُوه حقَّ معرفته، وقال أبو العالية‏:‏ ما وصفوه حقَّ قُدْرته وعَظَمته، وهذه المعانِي كلُّها صحيحةٌ‏.‏ انتهى، وروي أنَّ مالك بن الصَّيْفِ كان سَمِيناً، فجاء يخاصم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بزعمه، فقال له رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَنْشُدُكَ اللَّه، أَلَسْتَ تَقْرَأُ فِيمَا أُنْزِلَ على موسى‏:‏ إنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْحِبْرَ السَّمِينَ ‏"‏، فَغَضِبَ، وقال‏:‏ «واللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ»، قال الفَخْر‏:‏ وهذه الآية تدلُّ على أن النكرة في سياقِ النفْي تعمُّ، ولو لم تفد العمومَ، لما كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَاء بِهِ موسى نُوراً‏}‏ إبطالاً لقولهم ونقْضاً عليهم‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب‏}‏، يعني‏:‏ التوراةَ، و‏{‏قراطيس‏}‏‏:‏ جمع قِرْطَاس، أي‏:‏ بطائق وأوراقاً، وتوبيخهم بالإبداء والإِخفاء هو على إخفائهم أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم وجَميعَ ما عليهم فيه حُجَّة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ‏}‏، يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنْ يقصد به الامتنانَ عليهم، وعلى آبائهم‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنْ يكون المقصود ذمَّهم، أي‏:‏ وعلِّمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه، فما انتفعتم به؛ لإعراضكم وضلالكم‏.‏

ثم أمره سبحانه بالمبادرة إلى موضع الحُجَّة، أي‏:‏ قل اللَّه هو الذي أنْزَلَ الكتابَ على موسى، ثم أمره سبحانَهُ بتَرْك مَنْ كَفَر، وأعرض، وهذه آية منسوخةٌ بآية القتالِ؛ إن تُؤُوِّلَتْ موادعةً، ويحتمل ألاَّ يدخلها نسْخٌ إذا جُعِلَتْ تتضمَّن تهديداً ووعيداً مجرَّداً من موادعة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ‏}‏‏:‏ «هذا»‏:‏ إشارة إلى القرآن، وقوله‏:‏ ‏{‏مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏، يعني‏:‏ التوراةَ والإنجيل؛ لأن ما تقدَّم، فهو بيْنَ يدَيْ ما تأَخَّر، و‏{‏أُمَّ القرى‏}‏‏:‏ مكَّة، ثم ابتدأ تباركَ وتعالى بمَدْحِ قومٍ وصفهم، وأخبر عنهم؛ أنهم يؤمنون بالآخرةِ والبَعْثِ والنشورِ، ويؤمنون بالقُرآن، ويصدِّقون بحقيقتِهِ، ثم قوى عزَّ وجلَّ مدحهم بأنهم يحافظون على صَلاَتهم التي هي قاعدةُ العباداتِ، وأمُّ الطاعاتِ، وإذا انضافت الصلاةُ إلى ضميرٍ، لم تكتب إلا بالألِفِ، ولا تكتبُ في المُصْحَف بواوٍ إلا إذا لم تُضَفْ إلى ضمير‏.‏

وقد جاءت آثار صحيحةٌ في ثواب مَنْ حافظ على صلاته، وفي فَضْل المشْيِ إليها؛ ففي «سنن أبي داود»، عن بُرَيْدة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏

«بِشِّرِ المَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إلَى المَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ»، وروى أبو داود أيضاً بسنده، عن سعيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، قال‏:‏ حضر رجلاً من الأنصار المَوْتُ، فقال‏:‏ إني محدِّثكم حديثاً ما أحدثكموه إلا احتسابا، سمعتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلاَةِ، لَمْ يَرْفَعْ قَدَمَهُ اليمنى إلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً، وَلَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ اليسرى إلاَّ حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَةً، فَلْيَقْرُبْ أَوْ لِيُبْعِدْ، فَإنْ أَتَى المَسْجِدِ، فصلى فِي جَمَاعَةٍ، غُفِرَ لَهُ، فَإنْ أَتَى المَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّوْا بَعْضاً، وَبَقِيَ بَعْضٌ، صلى مَا أَدْرَكَ وَأَتَمَّ مَا بَقِيَ كَانَ كَذَلِكَ فَإنْ أَتَى المَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّوْا، فَأَتَمَّ الصَّلاَةَ، كَانَ كَذَلِكَ»، وأخرج أبو داود، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلاَّهَا أَوْ حَضَرَهَا، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ» انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ الله‏}‏، هذه ألفاظٌ عامَّة، فكل مَنْ واقَعَ شيئاً مما يدخُلُ تحت هذه الألفاظ، فهو داخلٌ في الظُّلْم الذي قد عَظَّمه اللَّه تعالى، وقال قتادةُ وغيره‏:‏ المرادُ بهذه الآياتِ مُسَيْلِمَةُ، والأسودُ العَنْسِيُّ‏.‏

قال عكرمة‏:‏ أوَّلها في مُسَيْلِمَة، والآخر في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وقيل‏:‏ نزلَتْ في النَّضْرِ بنِ الحارِثِ، وبالجملة فالآيةُ تتناولُ مَنْ تعرَّض شيئاً من معانيها إلى يوم القيامةِ؛ كَطُلَيْحَةَ الأَسَدِيِّ، والمُخْتَارِ بنِ أبِي عُبَيْدٍ وسواهما‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ جوابُ «لو» محذوفٌ، تقديره‏:‏ «لَرَأَيْتَ عَجَباً أو هَوْلاً، ونحْوُ هذا، وحَدْفُ هذا الجواب أبلغُ في نفس السامعِ، و‏{‏الظالمون‏}‏ لفظٌ عامٌّ في أنواعِ الظلمِ الذي هو كُفْر، و«الغَمَرَاتُ»‏:‏ جمع غَمْرةٍ، وهي المُصِيبة المُذْهِلة، وهي مشبَّهة بغمرة الماء، والملائكة، يريد‏:‏ ملائكةَ قَبْضِ الرُّوحِ، و‏{‏بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ‏}‏‏:‏ كنايةٌ عن مدِّها بالمكروهِ، وهذا المكروهُ هو لا مَحَالة أوائلُ العذابِ، وأماراته، قال ابنُ عبَّاس‏:‏ يَضْرِبُون وجوههم وأدبارهم، وقوله‏:‏ ‏{‏أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ‏}‏‏:‏ حكايةٌ لما تقولُه الملائكة، والتقدير‏:‏ يقولون لهم‏:‏ أخرجوا أنْفُسَكم، وذلك على جهةِ الإهانة، وإدْخَال الرعْبِ عليهم، ويحتملُ‏:‏ أخرجوا أنفسكُمْ مِنْ هذه المصائبِ والمحنِ، إنْ كان ما زعمتموه حقًّا في الدنيا، وفي ذلك توبيخٌ وتوقيفٌ على سالف فعلهم القبيحِ، قلت‏:‏ والتأويل الأولُ هو الصحيحُ، وقد أسند أبو عمر في «التمهيد»، عن ابن وَضَّاحٍ، قال‏:‏ حدَّثنا أبو بكرِ بْنُ أبي شَيْبة، ثم ذَكَر سنده، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏"‏ المَيِّتُ تَحْضُرُهُ المَلاَئِكَةُ، فَإذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، قَالَتِ‏:‏ اخرجي، أيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخرجي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانٍ، قَالَ‏:‏ فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ، فَيُفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ فَيَقُولُون‏:‏ فُلاَنٌ، فَيُقَالُ‏:‏ مَرْحَباً بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ، كَانَتْ فِي الجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادخلي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ‏.‏، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَان، فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حتى يَنْتَهِيَ بِهَا إلَى السَّمَاءِ، يَعْنِي‏:‏ السَّابِعَةَ، وَإذَا كَانَ الرُّجُلُ السُّوءُ، وَحَضَرَتْهُ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ مَوْتِهِ، قالَتِ‏:‏ اخرجي، أيَّتُهَا النَّفْسُ الخَبِيثَةُ، كَانَتْ فِي الجَسَدِ الخَبِيثِ، اخرجي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٍ، فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حتى تَخْرُجَ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ وذكر الحديثَ‏.‏ انتهى، و‏{‏الهون‏}‏‏:‏ الهَوَان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ لفظ عامٌّ لأنواع الكفر، ولكنه يظهر منه الإنحاءُ على مَنْ قَرُب ذِكْرُه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه حكايةٌ عما يقالُ لهم بعد قَبْض أرواحهم، واعلم أيها الأخُ؛ أنَّ هذه الآية الكريمةَ ونَحْوَها من الآيِ، وإن كان مساقها في الكُفَّار، فللمؤمن الموقِنِ فيها مُعْتَبَرٌ ومزدَجَر، وقد قيل‏:‏ إن القبر بحْرُ النداماتِ، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي هريرة، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إلاَّ نَدِمَ، قَالُوا‏:‏ وَمَا نَدَامَتُهُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ إنْ كَانَ مُحْسِناً، نَدِمَ ألاَّ يَكُونَ ازداد، وإنْ كَانَ مُسِيئاً، نَدِمَ أَلاَّ يَكُونَ نَزَعَ ‏"‏ انتهى‏.‏

و ‏{‏كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏‏:‏ تشبيهاً بالاِنفراد الأول في وقت الخِلْقة، و‏{‏خولناكم‏}‏، معناه‏:‏ أعطيناكم، و‏{‏وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ‏}‏‏:‏ إشارة إلى الدنيا؛ لأنهم يتركون ذلك موجوداً‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ‏}‏‏:‏ توقيفٌ على الخطإ في عبادة الأصنام، واعتقادهم أنها تشفع وتُقَرِّب إلى اللَّه زلفى، قال أبو حَيَّان‏:‏ ‏{‏وَمَا نرى‏}‏‏:‏ لفظه لفظُ المستقبلِ، وهو حكاية حال‏.‏ انتهى‏.‏

وقرأ نافع والكسائي‏:‏ «بَيْنَكُمْ» بالنصب؛ على أنه ظرْفٌ، والتقدير‏:‏ لقد تقطَّع الاِتصال والاِرتباطُ بينكم، ونحْوُ هذا، وهذا وجهٌ واضحٌ؛ وعليه فسَّره الناس؛ مجاهد وغيره، وقرأ باقي السَّبْعة‏:‏ «بَيْنُكُمْ» بالرفع، وقرأ ابن مسعودٍ وغيره‏:‏ «لَقَد تَقَطَّعَ مَا بَيْنَكُمْ»، و‏{‏ضَلَّ‏}‏، معناه‏:‏ تَلِفَ وذَهَب، و‏{‏مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏، يريد‏:‏ دعواهم أنها تشفَعُ، وأنها تشاركُ اللَّه في الألوهيَّة، تعالى اللَّه عن قولهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 97‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏95‏)‏ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏96‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى‏}‏، هذا ابتداءُ تنبيهٍ على العبرة والنظَرِ، ويتصلُ المعنى بما قبله؛ لأن المقصد أنَّ اللَّه فالقُ الحبِّ والنوى لا هذه الأصنامُ، قال قتادة وغيره‏:‏ هذه إشارة إلى فعل اللَّه سبحانه في أنّ يشُقَّ جميع الحَبِّ عن جميع النباتِ الذي يكُونُ منه، ويشُقُّ النوى عن جميع الأشجار الكائِنَة مِنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ الإشارة إلى إخراج الإنسان الحيِّ من النطفة الميِّتة، وإخراج النطفة الميِّتة من الإنسان الحيِّ، وكذلك سائرُ الحيوان من الطَّير وغيره، وهذا القول أرجح ما قيل هنا‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلكم الله‏}‏ ابتداء وخبَرٌ متضمِّن التنبيه، ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏، أي‏:‏ تُصْرَفُون وتُصَدُّون، و‏{‏فَالِقُ الإصباح‏}‏، أي‏:‏ شَاقُّه ومُظْهره، والفَلَقُ‏:‏ الصُبح، و‏{‏حُسْبَاناً‏}‏‏:‏ جمع حسابٍ، أي‏:‏ يجريان بحسَابٍ، هذا قول ابنِ عباس وغيره، وقال مجاهد في «صحيح البخاريِّ»‏:‏ المرادُ بحُسْبَان كحسبان الرحى، وهو الدَّوْلاَب والعُودُ الذي عليه دَوَرانه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظلمات البر والبحر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ هذه المخاطبةُ تعمُّ المؤمنين والكافرين، والحُجَّةُ بها على الكافرين قائمةٌ، والعبرة بها للمؤمنين متمكَّنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‏(‏98‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏، يريد‏:‏ آدم عليه السلام، ‏{‏فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ‏}‏، اختلف المتأوِّلون في معنى هذا الاستقرارِ والاِستيداعِ‏.‏

فقال الجمهور‏:‏ مستقَرٌّ في الرحِمِ، ومستودَعٌ في ظهور الآباءِ حتى يَقْضِيَ اللَّه بخروجهم، قال ابنُ عَوْن‏:‏ مشَيْتُ إلى منزل إبراهيمَ النَّخَعيِّ وهو مريضٌ، فقالوا‏:‏ قد تُوُفِّيَ، فأخبرني بعضهم أنَّ عبد الرحمن بْنَ الأسود سأله عن‏:‏ ‏{‏مُّسْتَقِرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ‏}‏، فقال‏:‏ مستقرٌّ في الرحِمِ، ومستودع في الصُّلْبِ، وقال ابن عباس‏:‏ المستقرُّ‏:‏ الأرض، والمستودَعُ‏:‏ عند الرحمن، وقال ابن جُبَيْر‏:‏ المستودَعُ‏:‏ في الصلب، والمستقَرُّ في الآخرة، قال الفَخْر‏:‏ والمنقول عن ابن عباس في أكثر الرواياتِ أن المستقرَّ هو الأرحام، والمستودَعُ الأصلاب، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ونُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَاءُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏ ومما يدلُّ على قوة هذا القولِ؛ أنَّ النطفة لا تبقى في صُلْب الأب زماناً طويلاً، والجنينُ في رَحِمِ الأم يبقى زماناً طويلاً، ولما كان المُكْث في الرحمِ أكثر مما في صُلْب الأب، كان حمل الاستقرارِ على المُكْث في الرحمِ أولَى‏.‏ انتهى‏.‏

قال * ع *‏:‏ والذي يقتضيه النظر أنَّ ابن آدم هو مستودَعٌ في ظهر أبيه، وليس بمستقِرٍّ فيه استقرارا مطلقاً؛ لأنه يتنقَّل لا محالة، ثم ينتقلُ إلى الرحِمِ، ثم ينتقل إلى الدنيا، ثم ينتقلُ إلى القبر، ثم ينتقلُ إلى المَحْشَر، ثم ينتقلُ إلى الجَنَّة أو النار، فيستقرُّ في أحدهما استقرارا مطلقاً، وليس فيها مستودَعٌ؛ لأنه لا نُقْلَة له بَعْدُ، وهو في كلِّ رتبة متوسِّطة بين هذين الطرفَيْن مُسْتَقِرٌّ بالإضافة إلى التي قبلها، ومستودَعٌ بالإضافة إلى التي بعدها؛ لأن لفظ الوديعةِ يقتضي فيها نُقْلة، ولا بُدَّ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏، ‏{‏السماء‏}‏؛ في هذا الموضع‏:‏ السحابُ، وكلُّ ما أظلَّك فَهُو سماءٌ، وقوله‏:‏ ‏{‏نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏، قيل‏:‏ معناه‏:‏ ممَّا ينبتُ، وقال الطبريُّ‏:‏ المراد ب ‏{‏كُلِّ شَيْءٍ‏}‏‏:‏ كلُّ ما ينمو مِنْ جميع الحيوان والنباتِ والمعادِنِ، وغير ذلك؛ لأن ذلك كله يتعذى وينمو بنزولِ الماء من السماءِ، والضمير في ‏{‏مِنْهُ‏}‏ يعود على النباتِ، وفي الثانِي يعود على الخَضِر، و‏{‏خُضِراً‏}‏‏:‏ بمعنى‏:‏ أَخْضَر؛ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ «الدُّنْيَا خَضِرَةً حُلْوَةٌ»، بمعنى‏:‏ خضراء؛ وكأن خَضِراً إنما يأتي أبداً لمعنى النَّضَارة، وليس لِلَّوْن فيه مدخلٌ، وأخضر إنما تمكُّنه في اللون، وهو في النَّضَارة تجوّز، و‏{‏حَبّاً مُّتَرَاكِباً‏}‏‏:‏ يعم جميع السنابلِ وما شاكَلَها؛ كالصَّنَوْبر، والرُّمَّان، وغيرِ ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النخل‏}‏، تقديره‏:‏ ونُخْرِجُ مِنَ النخلِ والطَّلْعِ أولَ ما يخرج من النَّخْل، في أكمامه، و‏{‏قنوان‏}‏‏:‏ جمع قِنْو، وهو العِذْق بكسر العين، وهي الكِبَاسَةُ، والعُرْجُونُ‏:‏ عوده الذي فيه ينتظمُ التمر، و‏{‏دَانِيَةٌ‏}‏‏:‏ معناه‏:‏ قريبةٌ من التناول؛ قاله ابن عباس وغيره‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ «وجَنَّاتٍ» بالنصب؛ عطفاً على قوله‏:‏ «نَبَاتَ»، وروي عن عاصم‏:‏ «وجَنَّاتٌ» بالرفع؛ على تقدير‏:‏ ولكُمْ جناتٌ أو نحو هذا، ‏{‏والزيتون والرمان‏}‏ بالنصب إجماعاً؛ عطفاً على قوله‏:‏ «حَبًّا»، و‏{‏مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ‏}‏، قال قتادة‏:‏ معناه يتشابه في الوَرَقِ ويتبايَنُ في الثَّمَرِ، وقال الطبريُّ‏:‏ جائز أن يتشابه في الثَّمَر ويتبايَنُ في الطَّعْم، ويحتمل أن يريد يتشابه في الطَّعْمِ ويتباين في المَنْظَرِ، وهذه الأحوال موجودةٌ بالاعتبار في أنواع الثمرات‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏انظروا‏}‏، وهو نظرُ بَصَرٍ تتركَّب عليه فكرةُ قَلْبٍ، «والثمر»؛ في اللغة‏:‏ جَنَى الشجر وما يطلع، وإن سمي الشجر‏:‏ ثماراً، فبتجوُّز، وقرأ جمهور الناس‏:‏ ‏{‏وَيَنْعِهِ‏}‏ بفتح الياء، وهو مصدر يَنَعَ يَيْنَعُ؛ إذا نَضِجَ، وبالنُّضْج فسره ابن عباس، وقد يستعمل «يَنَعَ» بمعنى استقل واخضر ناضراً، قال الفخر‏:‏ وقدَّم سبحانه الزَّرع؛ لأنه غذاء، والثِّمار فواكهٌ وإنما قدَّم النخل على الفواكِهِ؛ لأن التمر يجرِي مجرى الغذاءِ بالنسبة إلى العرب‏.‏ انتهى‏.‏